تخطي إلى المحتوى
الحج في الخطاب الإسلامي والواقع الراهن الحج في الخطاب الإسلامي والواقع الراهن > الحج في الخطاب الإسلامي والواقع الراهن

الحج في الخطاب الإسلامي والواقع الراهن

ويكاد الحج في الخطاب الإسلامي الراهن، لا يعدو بيان الأحكام كما وردت في كتب الفقه، وبيان فرضيته وثوابه الفردي في الدار الآخرة، من دون أن يكون لذلك أي علاقة بما ينبغي أن يعود به على الحاج في الدنيا من أثر أو تغير في سلوكه ومعاملاته وعلاقاته مع الآخرين، سواءً أثناء أدائه لأعمال الحج، أو عندما يعود إلى أهله قافلاً من حجه، على الرغم مما تقرر لدى العلماء من أن من وجد نفسه وخلقه بعد أداء العبادة خيراً مما كان عليه قبلها، فإن ذلك من علامات قبولها.

وفيما عدا القلة من العلماء الأخيار، الذين تعد صحبتهم في الحج مَعيناً يفيض بالنور والعلم والتقوى والصلاح على من حولهم، من خلال القدوة الحسنة، والتأسي بأعمالهم، والْتماس العِلْم والخلق لديهم، والتأثر الذاتي بصدقهم وإخلاصهم.. فقد تحولت مهمة معظم أمراء أفواج الحج إلى مهمة إرشاد ديني سياحي،فيما أطلق عليه اسم (السياحة الدينية).  

ونظراً للصعوبات الناجمة عن تضخم عدد الحجاج، بسبب التقدم الكبير في وسائط النقل والمواصلات، فقد توجهت الاهتمامات المشتركة بين الحجاج وقادة الأفواج إلى التنافس حول ما يمكن أن يقدمه كل منهم من تسهيلات للحاج في إقامته وتحركاته وطعامه وشرابه حتى أخذت رحلات الحج تقاس بعدد النجوم، فهذه رحلة ذات نجمة أو نجمتين، تكاليفها متيسرة لذوي الدخل والإمكانات المحدودة، وتلك رحلة تصل إلى مستوى خمس نجوم، بما توفره من إقامات فاخرة وموائد مفتوحة ومرشدين لامعين، وتكاليفها ترتفع إلى ما أصبح يطلق عليه مصطلح (الأرقام الفلكية) التي لا يقدر عليها إلا القليل من الميسورين.

وهكذا تحول حديث الحاج لزواره عندما يؤوب من حجه إليهم عن هذه التسهيلات والامتيازات التي وُفرت له، وعن الصعوبات التي واجهها الحجاج الذين لم يتيسر لهم ما تيسر له، وعن الساعات التي قضاها بعضهم ضمن سيارات النقل من عرفات إلى المزدلفة، وعن.. وعن.. مما يذهب بكل مقاصد الحج العليا، وكل ما يترتب على تحقيقها من آثار إيجابية تعود على الفرد وعلى المجتمع وجماعة المسلمين.

وهذا كله ، فضلاً عن اختزال الإرشاد الديني في الجانب الفقهي من أحكام الحج، وفيما يترتب للحاج من حسناتٍ تُدَّخر له في آخرته، بمعزلٍ عما يُعجل له ولإخوانه المسلمين من منافع تعود عليه وعليهم بالبركات والخير العميم، استجابة لدعائهم ]رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً [ [ البقرة 2/201].

ونظراً لعدم مواكبة الأحكام الفقهية لمستجدات العصور وما طرأ على بيئة الحج من تغيرات كبرى في العَدد والعُدد والوسائط وأنماط المعيشة، وما نجم عن هذه المتغيرات من مشكلات تكون أحياناً كارثية، فقد ظل الخطاب الديني غالباً في عصر الطيارة كما كان في عصر الجمل، وبسبب عجز معظم المرشدين عن المقايسة والمقاربة، فقد ظلت فتاواهم تنـزع إلى التشدد، والتقيد بحرفية النصوص، على الرغم من توكيد القرآن الكريم على رفع الحرج ] و َما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [ [ الحج 22/78]، وعلى الرغم مما رواه البخاري عن ابن عباس" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أيام منى ، فيقول : "لا حَرَج، لا حرج!" وفي رواية عن عبد الله بن عمرو: " ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء قُدِّم ولا أًُخِّر إلا قال: افعل ولا حرج".

وهذا النـزوع إلى التشدد انتقل بدوره من المرشدين إلى العوام يطلقون به أحكاماً من عند أنفسهم ما أنزل الله بها من سلطان، فقد أصغيت في الطائرة – وأنا في طريقي إلى حجٍّ- إلى امرأة محرمة بالحج، تنهى زميلتها عن فتح الشاشة الصغيرة التي أمامها، وتأمرها بسترها، لأنها كالمرآة؛ تعمل عملها، والمرآة في الحج تفسد الإحرام!!

لست هنا لأدعو إلى اجتهادٍ منفلت لمواجهة المستجدات، بل إنني أتطلع إلى اجتهاد جماعي يقوم به المسلمون من خلال مؤتمراتهم الفقهية، ومراكزهم لأبحاث الفقه الإسلامي، يطرحون فيه المشكلات الطارئة على بساط البحث؛ يحللونها ويضعون لها الحلول الناجعة في ضوء ثوابت الشرع، وفي طليعتها قاعدة رفع الحرج، ومنع الضرر، وأولوية درء المفاسد على جلب المصالح، ودوران المعلول مع العلة، وفي ضوء المقاصد العليا للشريعة، واستثمار تقنيات العصر لأجل تذليل كل الصعاب التي تحول دون تحقيقها..

وإن لدينا من تجربتنا الفقهية الغنية ما يؤهلنا للاجتهاد في كل المستجدات الطارئة، وإن فقهنا الذي اتسع في مسألة المبيت بمنى للحكم ونقيضه، لقادر على استيعاب مشكلاتنا الجديدة؛ كمواقيت الإحرام للقادمين بالطائرة، وممنوعات الإحرام وتطبيقاتها المستجدة، وأوقات التوجه إلى منى ، ورمي الجمرات ، وطواف الإفاضة ، وسفر المرأة بدون محرم؛ وما يسببه التقيد بأوقاتها –الواردة- من حرجٍ؛ كثيراً ما يفضي إلى التدافع والهلاك.

إن رحلة العمر لكل مسلم، لا يجوز اختزالها في أداء مناسك تحولت إلى طقوس لا روح فيها، فكل منسك من هذه المناسك يرمز إلى قيمة إنسانية عليا، توجه حياة الإنسان في خدمة الرسالة الخاتمة التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم في أعناق  الأجيال الإنسانية المتعاقبة، وإن علينا أن نعي الرموز الكبرى التي تنطوي عليها هذه المناسك، لنحسن الاستفادة منها في حياتنا، ثم تبليغها إلى الإنسانية المتعبة..

وكل ذرة من الأرض المباركة حول البيت العتيق تحكي حدثاً تاريخياً بارزاً كان له الأثر الكبير في بناء الأمة الراشدة التي اضطلعت يحمل الرسالة ، علينا أن نسلط الضوء عليها، لتدخل في وعي الحاج وتستقر  في ضميره، يستلهمها في جهده لاستئناف المسيرة الحضارية لأمته.

إن لدينا من التقنيات الحديثة والإمكانات ما نستطيع به أن نذلل كل الصعاب، وما نحسن به عرض تاريخنا وقيمنا أحسن وأجزل ما يكون العرض، وأكثر جاذبية وأعمق أثراً، وإن الله سائلنا يوم القيامة عن تقصيرنا في توظيف هذه التقنيات والإمكانات في إعادة بناء الأمة الراشدة و تبليغ الرسالة وأداء الأمانة.

(تابونج حاجي) التجربة الماليزية الرائدة

كل من عاد إلينا من حج أو عمرة، يتحدث عن الحجاج الماليزيين؛ نظامِهم، أخلاقِهم، أناقتِهم، لطفِهم، تجمعِهم زرافات، وحدة زيِّهم، حسنِ أدائهم للمناسك، تجنبِهم لإيذاء إخوانهم.. أنى لهم كل ذلك من دون سائر الحجاج؟! وكيف تأتى لهم ذلك؟!

(تابونغ حاجي) ؛ادخار الحاج، (مكمورة) الحاج، صندوق حفظ نقود الحاج.

ادخار عائلي على هدي الشريعة الإسلامية تعود فكرته إلى الاقتصادي الماليزي الشهير أنغو عزيز من جامعة الملايا، وتقوم على أساس إنشاء مؤسسة تهتم بادخار الحج لتوفير نفقاته، واستثمار المدخرات في الوقت نفسه.

وقد حظي المشروع بمباركة الإمام محمود شلتوت شيخ الأزهر خلال زيارته لماليزيا 1962، وقد بلغ عدد المشاركين في الصندوق عام 2003 أربعة ملايين ونصف المليون، بإيداعات وصلت إلى 2.6 مليار دولار أميركي، وبنمو في معدل المودعين بنسبة 2.7 سنوياًَ، وهو أعلى من  معدل  زيادة عدد السكان البالغ 2.5% في السنة.

ويقدم الصندوق خدمات الإعاشة والفحص الصحي والنقل والرعاية والإرشاد الديني سنوياً للحجاج.

ويفتح الصندوق حساباً لكل مسلم ماليزي بحد أدنى للاشتراك الشهري يعادل 10 ريجنت ماليزي للبالغين (يعادل 2.75$ أميركي تقريباً) و2 ريجنت للأطفال (تعادل نصف دولار أميركي تقريياً). وله مجلس استشاري يوجه أعماله ويراقبها لتظل متسقة مع الشريعة الإسلامية، ومحققة لمقاصدها.

ولديه عدد من الشركات والمؤسسات في الداخل والخارج، ويوزع أرباحاً تتراوح بين 8-12% سنوياً بعد حسم الضرائب والزكاة، وقد وفر للحجاج خدمات جيدة  بتكلفة زهيدة مقارنة بالدول المجاورة (2300 $ مقابل 3200 في أندونيسيا و 5300 في سنغافورة).

ويعزى نجاحه إلى السهولة والطمأنينة التي وفرها للمدخرين نتيجة التزامه أحكام الشريعة الإسلامية التي قامت على أساسها شبكة متكاملة من الأوعية الادخارية في ماليزيا مثل صندوق احتياطي الموظفين، وصندوق الأمن الاجتماعي، وصناديق الضمان الاجتماعي، والادخار الإسلامي.

إنه أنموذج للتنمية البشرية يحتذى، وتجربة إسلامية فريدة ورائدة. تستحق التأمل والمزيد من الدرس والاطلاع للاقتداء والتأسي..

إن فكرة تبسيط الادخار، وتسهيل إجراءاته، وجعِله في متناول كل إنسان، وإتاحِته للطفل منذ ولادته وتثميِرِه له، حتى يتسع لقضاء كل حاجاته الدينية والدنيوية، واستثماره في مشاريع إنتاجية تنموية، والتزامِ أحكام الشريعة الإسلامية في كل مراحله، وربطِ ذلك كله بشعيرة الحج، لهو إنجاز كبير يفسره لنا النجاح المنقطع النظير الذي حققه هذا المشروع، ويؤكد لنا في الوقت ذاته الطاقات الكامنة لدينا التي تنتظر من يكشف عنها ويفجرها.

فهل لمصارفنا الإسلامية، ورجالات الأعمال ونسائها لدينا، أن يعملوا فكرهم- مخلصين- في احتذاء خطوات هذه التجربة التي ما تزال فريدة، من دون أن يخالطها زيف ولا دخن، فيحققوا لشعوبهم نهوضاً يرضى عنه الله تعالى في الدنيا والآخرة ويدخلون به حلبة التقدم والحضارة الإنسانية من جديد بعد طول غياب!

المصدر: 
دار الفكر